الأزهر

نص كلمة الإمام الأكبر شيخ الأزهر في المؤتمر الدولي الـ 23 للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية

ننشر نص كلمة الإمام الأكبر شيخ الأزهر د.أحمد الطيب بمؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية  والذى افتتحه المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء نائبًا عن رئيس الجمهورية، بحضور البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، اليوم الثلاثاء بأحد الفنادق الكبرى بالقاهرة.

وَبيَّنَ الإمام الأكبر وسطية الإسلام وبراءته من أفكار التكفيريين ودعا إلى الحوار, مؤكدا أنه لو قدر للأفكار الشاذة أن تكتب فى جو الحرية لتغيرت شكلا ومضمونا وأن البعد عن التكفير أصل من أصول الإسلام , مشيرا إلى أن الأزهر مؤسسة رسالتها التجميع لا التفريق داعيا العلماء إلى مقاومة الانحراف التكفيرى بالأدلة الواضحة والحوار الهادئ, قائلا:”علاج قضية التكفير هى السبيل الأوحد للحفاظ على الأمن الداخلى والسلام العالمي”
وجاء نص الكلمة كالتالى

                                           بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبِه ومن اهتدى بهداه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد:
فأهلًا بكم جميعًا ومرحبًا فى بلدكم الثاني: مصر الكنانة، وأرجو لكم جميعًا التوفيقَ من اللهِ تعالى فى هذا المُؤتمَر الذى تتحدثون فيه عن أخطر قضايا أمَّتِنا العربيَّةِ والإسلاميَّةِ فى عصرنا الحاضر.. تلكم هى قضيَّةُ فَوْضَى تكفير المسلمين، وفَوْضَى الفتوى بحلِّ قتلِهم وقتالِهم.
وهى مِحنةٌ كُبرى تُعانى منها بعضُ مُجتَمَعاتنا عَناءً شديدًا، وكُنَّا نظنُّ أنَّ هؤلاء المكفرين قد استعادوا وعيَهم وفهم لدينهم فهمًا صحيحًا، وتخلَّصوا من هذه الآفةِ ومن توابعها المُدمِّرةِ منذُ تسعينات القرن الماضى فى مصرَ وغيرِها من البلدانِ والأقطار، غير أنَّنا فوجئنا بهذه الآفة تطل – أخيرا – على بلادنا بوجهِها القبيحِ وتقضُّ مَضاجعَ شُعوبٍ عربيَّةٍ وإسلامية بأكمَلِها فى آسيا وإفريقيا على السَّواء؛ تَقتُلُ وتُدمِّرُ وتُفجِّرُ وتَغتالُ الآمِنين الغافلين البُرآء، وتُحوِّلُ حياةَ الناس إلى جحيمٍ لا يُطاق..

ومن المُؤلِم غايةَ الألمِ أنْ تُرتَكَبَ هذه الجرائمُ باسمِ الإسلامِ وباسمِ شريعتِه السَّمحاء، وتُنفَّذ عملياتها المدمرة مع صَيْحات التَّهليلِ والتَّكبيرِ ودَعوى الجِهاد والاستِشهاد فى سبيلِ الله. الأمرُ الذى استَغلَّه الإعلامُ الغربى أسوأَ استغلالٍ فى تشويهِ صُورةِ الإسلامِ، وتقديمِه للعالم بحسبانه دِينًا هَمَجِيًّا مُتعطِّشًا لسَفكِ الدِّماء وقتلِ الأبرياء ويحثُّ على العُنفِ والكراهيةِ والأحقادِ بين صُفوفِ أبنائه وأتباعه..

وظاهرةُ تكفيرِ المُخالِفين هذه – وما يَترتَّبُ عليها من استباحةِ الدِّماءِ – ليست بالجديدةِ على المُجتَمعات الإسلاميَّةِ، وفِقهُها فقهًا ليس فقهًا جديدًا على المسلمين، فكلُّنا درسنا تاريخَ فِرقةِ الخَوارجِ، وظُهورَها المُبكِّر فى صَدر الدولةِ الإسلاميَّةِ، وكيف أنَّها انحرَفتْ إلى هذه الكارثة نتيجةَ انحرافٍ سابقٍ فى تَصوُّرِها العَقدى والفِقهيِّ، وأعنى هنا فهمَها الخاطِئ للعلاقةِ بين مفهومِ الإيمان بالله -تعالى- كأصلٍ، والأعمالِ كفرعٍ، وكيف ضَلَّت حين تشبَّثت ببعض الظواهر وأدارَت ظَهرَها لظواهرَ أخرى تُعارِضُها وتدعو إلى التقيض مما فهموه وتشبَّثُوا به من بعض النُّصوص القرآنية.

ونحن لا نستطيعُ بطبيعة الحال أنْ نَعرِض فى كلمةِ كهذه تفاصيل هذا الموضوع نشأةً وأسباباً، وتطوُّرًا وعقيدةً، وفقهًا ومضمونًا، ولكن قد يكون من المناسب الحديثُ فى إيجازٍ عن عودةِ قضية التكفير، والبحث عن السبب الأعمق الذى مَكًّنَ من عودتها، واستئنافها لنشاطها المدمِّر.

وإنا لنعلم من تاريخ قضية “التكفير” أنَّ مُجتمعاتِنا فى مصرَ وفى العالمِ العربى والإسلامى لم تَكُن تَعرِفُ ظُهورَ جماعةٍ تُؤمِن باستحلالِ تكفيرِ المجتمعِ وجاهليَّته وتقول بوجوب المفاصلة الشعورية مع أفراده -قبل عام 67 من القرن الماضى – كما نعلم – وأنَّ جماعةَ التكفير الحديثة وُلِدَتْ فى السجون والمُعتَقلات بسببٍ من سياسة العُنف والتنكيل التى عُومِل بها الشبابُ المنتمى إلى الحَركاتِ الإسلاميَّةِ، وأنَّه حِين طُلِب منهم فى ذلكم الوقت إعلانُ تأييدِ الحاكِم سارَعَ معظمهم إلى كتابة ورقةِ تأييدٍ. بينما رفَضت قلَّةٌ منهم هذا العرضَ، وعَدوا موقفَ زُمَلائهم هذا تَخاذُلًا فى الدِّين، وتَمسَّكوا برفضهم هذا الإعلان، وثبتوا فى موقفهم، وما لَبِثُوا أنِ انعزَلُوا فى صَلاتِهم عن إخوانهم، وأَعلَنُوا كفرَهم لأنَّهم أيَّدوا حاكِمًا كافِرًا، كما أعلنوا أنَّ المجتمعَ بكلِّ أفرادِه كافر بسببِ مُوالاتِه لحاكِمٍ كافِرٍ، ولا فائدةَ من صَلاة أفراد هذا المُجتمع ولا صِيامِهم، ونادَوْا بأنَّ الخُروج من الكفرِ إنَّما يكون بالانضِمامِ إلى جَماعتِهم ومُبايَعة إمامهم”([1]).

هذه الحادثةُ ربَّما تُمثِّلُ أوَّلَ ظُهورٍ لجماعةِ التكفيرِ فى سنة 1967م بعدَ اندِثار فرقةِ الخوارج والفِرَق الباطنيَّة الأخرى التى أصبحت فى ذمَّة التاريخ.. وهكذا عادت ظاهرة التكفير الجديدة على أيدى شباب لم يكن يملك من المؤهلات العلمية والثقافية لمعرفة الإسلام إلا الحَماسَ ورُدودَ الأفعالِ الطائشةَ الحادَّةَ، وانتقامَ العاجزِ المُستَضعَفِ من الجَلَّادِ المُستَبِدِّ، فكان التكفيرُ هو الصِّيغةُ المُثلَى والأسرعُ للتَّعبيرِ عن واقعِهم المرير.

ومن هنا لم تكن أحكامُهم أو تصوُّراتُهم نابعةً من فقهٍ سديدٍ أو فكرٍ رشيدٍ، وإنما جاءت انعكاسًا لواقعٍ حافلٍ بالقَهرِ والضُّغوط؛ مما جعَل بعضَ المُدافِعين عن هذه الحَركة يُصوِّرُ التكفيرَ فى برنامجهم الحركى على أنَّه فى الحقيقةِ “فكر أزمة” وليس منهجًا فى الحركةِ الإسلاميَّةِ رغم جُنوح البعض إليه ([2]).

هذا، ويذهب آخَرون إلى أنَّ نشأة التكفيرِ فى العصر الحديث لم تكُن على أيدى هؤلاء الشباب الذين أعلَنُوا تكفيرَ الحاكم والمُجتَمعِ فى سُجونهم فى أواسط الستينات من القرن الماضي، وإنَّما نشَأ التكفيرُ عام: 1968م فى السجون – أيضًا – على أيدى جماعةٍ أخرى سمَّت نفسَها جماعةَ المسلمين، ثم عُرِفت فيما بعدُ باسمِ: “جماعة التكفير والهجرة”، وتأثَّرت بها جماعاتٌ إسلاميَّةٌ أخرى بعد ذلك.

وأيًّا كان سببُ نشأة التكفيرِيين، فإنَّ الذى لا شَكَّ فيه هو أنَّ السجون وما دارَ فيها من انتهاكاتٍ فى ذلك الوقتِ قد دفعت هؤلاء الشباب دفعًا إلى اعتقاداتٍ فاسدةٍ وتصوُّراتٍ شاذَّةٍ، والذى يُراجِع المؤلفات التى كتَـبَت فى رهق مصادرة الحريات قديمًا وحديثًا، يعثر فيها على كنزٍ من الآراء والأفكار التى لو قُدِّر لها أن تُكتَب فى جوِّ الحرية لتَغيَّرت شكلًا ومضمونًا.

غير أنَّ السجون ليست هى السببَ الأوحدَ فى عودة التكفير فى عَصرِنا هذا، فثمَّة – إلى جوارها فيما أحسبُ – سببٌ آخَر أعمَقُ فى التشجيع على التكفيرِ والإغراءِ به واستسهالِ الخطب فى شأنه، وهو هذا التُّراثَ الطويلَ المُتراكِم الذى يُمكِن أن نُطلِقَ عليه تراث الغلوِّ والتشدد فى الفكر الإسلامي، هذا التراث الذى يُعبِّر منذ نشأته عن انحِرافٍ واضح عن عَقائد الأمَّةِ وجماهيرِها؛ وهو فى كل الأحوال تراث ينتسب بصورةٍ أو بأُخرى إلى تراثِ الخوارج الذين حَذَّر منهم النبى ﷺ، ورفضَتْهم جماهيرُ الأمَّةِ الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا.

ومن اعتقادى أن مِحوَرَ الخِلاف بين عقيدة التكفيريين وعقيدة سائر أئمَّةِ المسلمين يَكمُن فيما يُسَمَّى فى مبحث الإيمانِ والإسلامِ عند عُلَماء العقيدة بعلاقةِ العمَلِ بجوهرِ الإيمان وحقيقتِه.

واسمَحُوا لى -أيُّها السَّادةُ العُلَماءُ الأفاضلُ-أن أُكرِّر على مَسامِعكم كلامًا إن يكن ليس بالجديدِ عليكُم، فإنَّه كثيرًا ما يغيب عن طائفةٍ من الدارسين والراصدين والمُحلِّلين لهذه القضيَّة، ثم هو ما يقتَضِيه المقام الآن. من المعلوم – أيُّها الإخوة – أنَّ مذهبَ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ فى حقيقةِ الإيمان أنَّه التصديقُ القلبى باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليوم الآخَر، إلى آخِر ما ورَد من الأحاديث الصحيحةِ التى تَفسِّرُ مفهومَ الإيمانِ بالاعتقادِ القلبى الجازم، وقد عرفه النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم فى صحيحه بقوله: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث”، أمَّا الأعمال من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وزكاةٍ، ومن فِعلِ الواجباتِ وتركِ المُحرَّمات؛ فإنَّها بمقتضى التعريف النبوى لا تدخل فى حقيقة الإيمانِ، أي: ليست جزءًا مقومًا لماهيته بل هى شرطُ كمالٍ؛ ولها شأن خطير فى زيادة الإيمان ونقصه، فهى تصعَدُ بالإيمان إلى أعلى درجاته، كما تَهبِطُ به أيضًا إلى أدنى درجاتِه، ومقتضى ذلك أنَّ زوالَ الأعمال لا يُزِيل الإيمانَ من أصلِه، بل يبقى المؤمنُ مؤمنًا حتى وإنْ قصَّر فى الطاعاتِ، أو اقتَرَفَ المعاصى والسيِّئات، ولا يَصِحُّ أنْ يُطلَق عليه لفظُ الكفرِ بحالٍ من الأحوال ما دام مُحتَفِظًا بالاعتقادِ القلبى الذى هو حقيقةُ الإيمان ومَعناه.

هذه النُّقطةُ تحديدًا هى فيصلُ ما بين عقيدةِ أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، وبين غيرهم ممن يَجعَلُون الأعمالَ داخلةً فى حقيقةِ الإيمان، ويُقرِّرون أنَّ مَن ارتكَب كبيرةً فقد زال إيمانُه، وأصبحَ كافرًا خارجًا عن المِلَّة؛ وهنا يفتح الباب على مصراعيه لسفك الدماء وسلب الأموال.

وهذه النُّقطةُ أيضًا هى فيصل التفرقة بين عقيدةِ الجمهورِ، وبين فِرقةِ المُعتزِلة الذين يقولون بأنَّ مرتكب الكبيرة ليس مُؤمِنًا وليس كافِرًا، وإنَّما هو فى مَنزِلةٍ بين المَنزِلتَيْن، ويُسَمُّونه الفاسِقَ، فى كلامٍٍ طويلٍ رفَضَه عُلَماءُ أهل السُّنَّةِ..

والذى يَهُمُّنى بيانُه الآن هو أنَّ بعضًا من أصحاب المذاهب الآن تكوَّن لديه تراث يتشدَّد فى مفهوم الإيمان ويَستَمِيت من خِلال التَّدريس والكِتابات والمُؤلَّفات والقنوات الفضائية فى أنْ يَغرِس فى عُقول الشَّباب أنَّ المذهبَ الصحيح هو المذهبُ الذى يَجعَلُ الإيمان مزيجًا من الاعتقاد والعمل، وأنَّ الاعتقادَ أو التصديق القلبى وحدَه لا يكفى فى تحقُّق معنى الإيمان.

وليتَ أصحاب هذه المَذاهبَ المتشدِّدةَ تَوقَّفوا عند طَرْحِ مذهبهم بحسبانه رأيًا من الآراء، أو مذهبًا من المَذاهِب؛ إذن لهانَ الخَطْبُ وسَهُلَ الأمرُ؛ ولكنَّهم راحوا يُروِّجون مذهبَهم هذا على أنَّه الحقُّ الذى لا حَقَّ سِواه، وأنَّ المذهبَ الأشعرى مذهبٌ ضالٌّ ومُنحرِفٌ ولا يُعبِّرُ عن حقيقةِ الإسلام فى هذا الموضوعِ، يقولون هذا برغم أنَّ أكثر من 90% من جَماهير المسلمين شرقًا وغربًا أشاعرةٌ يُؤمِنون بأنَّ الإيمانَ هو التصديقُ القلبيُّ، وأنَّ الأعمالَ تَزيدُ وتَنقُص من الإيمان، ولكنَّها لا تُزِيله ولا تَنقُضُه من أصلِه.

ونحن إذ ندعو الآن، وفى كلمتنا هذه، إلى عودة الوعى بمذهب الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث فى هذه القضية، فإننا ندعو إلى مذهب درجت عليه جماهير الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها الطويل وهو المذهب الذى يُضيِّق دائرةَ التكفير، بحيث لا يقع فيها إلَّا مَن يجترئ على الكفر الحقيقى وذلك بجحد ركن من أركان الإيمان أو جحد ما عُلِم من الدِّين بالضرورة.

هذا المذهب الذى تُقرِّرُ قاعدته الذهبية: أنَّه لا يُخرِجُك من الإيمانِ إلَّا جَحدُ ما أدخَلَك فيه-مذهبُ تُعضِّدُه آياتُ القُرآنِ الكريم، وتَشهَدُ له بانفكاك حقيقةِ الإيمانِِ عن حقيقة العمل فقد عطَفَ القرآنُ الكريمُ العمل على الإيمان عطفَ مُغايرةٍ فى قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فى مواضعَ عدَّةٍ.

كما أثبتَ فى آياتٍ كثيرةٍ بقاءَ الإيمانِ فى قلبِ المسلمِ مع اقترافِه المعاصى والذُّنوب: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} {الحجرات: 9}، ومَعلومٌ أنَّ القتلَ من أكبر الكبائرِ، ومع ذلك سَمَّى اللهُ القاتلينَ من الجانبَيْن مُؤمنِين.

وأيضًا: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} {الأنفال: 5-6}، فقد وصَف اللهُ أصحابَ النبى ﷺ بصفاتٍ هى من الكبائر، وهى كراهيةُ الجهادِ معه ﷺ ومُجادلتُهم إيَّاه، رغم تَبيُّن الحقِّ فى أذهانِهم، ومع ذلك سمَّاهم القُرآن “فريقًا من المؤمنين”.

ومن هذه الشَّواهِدِ القُرآنيَّةِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} {النحل: 106}، ومنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}{الصف: 2-3}، ومنها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}{التوبة/38}، إلى شَواهدَ أخرى كثيرةٍ تُخاطِب مُرتكِبى المعاصى والذنوب بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}وتَصِفُهم بالإيمانِ؛ ممَّا يقطَعُ بيقين أنَّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ولا يَجوزُ تكفيرُه، اللهمَّ إلَّا إذا ارتَكَب كبيرةَ الشِّرك وأنكر ما عُلِم من الدِّينِ بالضرورةِ، فهذا هو الكافرُ لجحودِه وإنكارِه.

هذا المذهب الأشعرى – وهو مذهب الجمهور – هو الذى يُعبِّرُ عن رَجاءِ الناس ورَجاءِ العُصاة والمؤمنين فى عَفوِ الله ومغفرتِه ورحمتِه، وهو الذى يَعكِسُ يُسرَ هذا الدِّين وحُنُوَّه على أتباعِه ورأفتَه بهم… على أنَّ الذى يقرأ مقدمة كتاب إمامنا أبى الحسن الأشعرى -رضى الله عنه- المعنون بـ: مقالات الإسلاميين يَعجَبُ للسَّماحة الإسلاميَّة المُدهِشة التى تَتبدَّى بين جَنَبات هذا الإمامِ الجليل، وذلك حِينَ يجمع المقالات والمذاهب والاختلافاتِ التى حدَثَتْ بين المسلمين ويحشدها تحتَ خَيْمَةِ الإسلام ويُسمِّيها: مقالات الإسلاميين واختلافات المُصلِّين، إستمع إليه فى مقدمته وهو يقول: “اختَلفَ الناسُ بعدَ نبيِّهم ﷺ فى أشياءَ كثيرةٍ، ضَلَّل فيها بعضُهم بعضًا، وبَرِئَ بعضُهم من بعضٍ، فصاروا فِرَقًا مُتبايِنين، وأحزابًا مُشتَّتِين، إلا أنَّ الإسلامَ يَجمَعُهم ويَشتَمِلُ عليهم”([3]). وهذا نصٌ جدير بأن يضعَه كل عالم نصب عينيه وهو ينظر إلى ما أصاب المسلمين اليوم من فرقة واختلاف.

هذا المذهبُ أسهَمَ بقُوَّةٍ فى حَقنِ دِماء المُسلِمين وصِيانةِ أموالهم وأعراضِهم، التى حرَّمها النبى ﷺ فى قَواطِعَ صريحةٍ بقوله: “كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه “.. ” أيُّها الناسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يَوْمِكم هذا”([4])، وهو نفسه المذهبُ ذو النَّظرةِ المُتَوازِنة للإنسان الخَطَّاء بطَبعِه، كما نبَّه إليه النبى ﷺ فى قولِه: “كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابون”([5]).

وتَعلَمون أيُّها العُلَماءُ الأفاضلُ من النظر فى مذهبِ الأشاعرةِ أنَّ قضيَّةَ التكفيرِ لا يَملِكُها أحدٌ، ولا هيئة ولا جماعة ولا تنظيم، وإنما هى تسمية شرعية بحتة، ولها من الضوابط وتوفر الشروط وانتفاء الموانع ما يحصرها فى أضيق الدوائر والحدود التى تدرأ بالشبهات، ثم هى منوطة بالقضاء وبأولى الأمر، ولا يُسارِع إليها إلا الجهلةُ من الناسِ كما يقولُ حُجَّةُ الإسلامِ الإمامُ الغزاليُّ، الذى يُقرِّرُ: “إنَّ الخطأ فى تَرْكِ كفر ألفِ كافرٍ أهوَنُ من الخطَأ فى سَفْكِ مِحجَمةٍ من دَمِ مُسلِمٍ “([6]).

كما يَذهَبُ الإمامُ محمد عبده إلى أنَّ البُعدَ عن التَّكفِير أصلٌ من أصولِ الأحكام فى الإسلامِ، ويقرر أنَّه: “إذا صدَر قولٌ من قائلٍ يَحتَمِلُ الكُفرَ من مائةِ وجهٍ، ويَحتَمِلُ الإيمانَ من وجهٍ واحدٍ، حُمِلَ على الإيمانِ، ولا يجوزُ حَملُه على الكُفرِ “([7]).

أيها الســـادة!

إنَّنا هنا – عَلِم الله – لا نَرمِى إلى إذكاء خِلافٍ بين العُلَماء، ومَعاذَ الله أنْ يَكونَ الأزهرُ مُؤسَّسةَ فُرقَةٍ بين المُسلِمين؛ فقد عاشَ أكثرَ من ألفِ عامٍ – وسيظلُّ – يُدرِّسُ المذاهبَ الفقهيَّةَ على اختلافِها، والمسائلَ الكلاميَّةَ على افتراقِها، والعلومَ الإسلاميَّةَ بمختلف أذواقِها ومَشاربِها، لكن الأزهر قد وجد ضالته – منذُ القِدَمِ – فى مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ واتخذه طَوْقَ نجاةِ للمُسلِمين كلَّما عَضَّتْهُم نوائبُ التَّشرذُمِ وآفاتُ التعصُّبِ المَقِيتِ لمذهبٍ يَراه أصحابُه هو الإسلامَ الذى لا إسلامَ غيرُه.. وسبيلُ الأزهرِ اليومَ هو سبيلُه بالأمسِ: السعى الحثيثُ لجمعِ كلمةِ المسلمينَ ووُقوفِهم صَفًّا واحدًا فى مَهَبِّ العَواصف والتيَّارات.

أيُّها السَّـادةُ الأفاضل!

إنَّ الأزهر الشريف الذى يَرفَعُ رايةَ “جمع الكلمة” بين المسلمين، والذى لا يُفرِّقُ بين مذهبٍ ومذهب فى مُقاوَمة مَوْجات الإلحادِ والتَّغرِيبِ والإفسادِ الأخلاقيِّ، لا يَدَّخِر جُهْدًا فى مُقاوَمةِ الانحِراف التكفيرى الطارِئ، والمرفوض من جَماهير الأُمَّةِ الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا، وليس أمامَنا – أيُّها الإخوة – من أجل تَحقِيق هذا الهدَف، إلَّا مُواصَلةُ السَّعى – بصِدقٍ – لجمعِ عُلَماءِ المسلمين على كلمة واحدة، لمواجهة الأخطار التى تُهدِّد الجميع ولتَحقِيق مصالحِ الأُمَّةِ ودرءِ المفاسِد عنها، وبدُون هذا الالتِقاءِ فإنَّ النتائجَ لن تكونَ على النحوِ الذى نَرجُوه لأُمَّتِنا وتَقتَضِيه مَصلحَتُها فى هذه الظُّروفِ التى يَمُرُّ بها العالَمُ الآن.

أيُّها الحفلُ الكريم!

إنَّنى منذُ اليوم الأوَّل الذى تَحمَّلتُ فيه المسؤوليَّةَ فى الأزهرِ الشريف أعلنتُ أنَّ وَحدةَ الأُمَّةِ مِن مَقاصِدِ الشريعةِ الكُليَّة، وأنَّ اجتماعَ كلمةِ عُلَمائِها فى القَضايا الحاسِمة وفى مُقدِّمتها –قضيَّةُ التكفيرِ– هو السبيلُ الأَوْحَدُ للحِفاظ على أمنِنا الداخليِّ، ووُجودِنا فى العالَمِ، بل الحفاظ على السلامِ العالمى كلِّه، وإنَّه لَمِمَّا يُثِيرُ التَّساؤُلَ أنَّ مُبادَرتى المُلحَّة والمُتكرِّرة من أجلِ وَحدةِ الأُمَّةِ، والتفاهُم بين مَذاهِبها والتفاعُل مع عُلَمائِها لم تَجِدْ بَعْدُ آذانًا صاغيةً بالقَدْرِ الذى يَبعَثُ الأمَلَ فى قُدرةِ هذه الأُمَّةِ على مُواجَهة تَحدِّيَاتِها. هذا الأمل الذى أسأل الله العلى القدير أن يُحقِّقه على أيديكم بإخلاص عملكم وصدق نواياكم الطيبة.

إنَّ أُمَّتَنا – أيُّها الإخوة – وكما يقررُ دِينُنا الحنيف هى خيرُ الأُمَمِ، وإنَّ مَكانَها اللائقَ بها هو مُقدمة الصُّفوف، وإنَّ الأزهرَ الشريف الذى يَفتَحُ أبوابَه أمامَ الجميعِ مُرحِّبًا ومُقدِّرًا أحوالَ المكان وظرفيَّةَ الزمان ومحترمًا اختلافات العُلَماء – لَيُجددُ دعوته إلى الأُمَّةِ حُكَّامًا ومَحكُومين إلى تَبنِّى المنهجِ الوسَطي، فى الفهم والاعتقاد والعمل، والذى دعَا إليه القُرآنُ والسُّنَّةُ؛ حِفاظًا على حاضر الأُمَّةِ ومُستَقبَلِها، وامتثالًا لقولِ الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »